سألني سائلٌ، فقال: سمعتُ في خُطبة الجُمُعة وصيَّةَ الخَضِر لموسى، فهل صحَّت؟ وما نصُّها؟
• قلتُ: هي وصيَّةٌ باطلةٌ موضوعةٌ، لا يَشكُّ في ذلك من له أدنى إلمامٍ بالحديث.
فأخرج هذا الحديثَ الطَّبَرانيُّ في "الأوسط"(٦٩٠٨)، وابنُ عَدِيٍّ في "الكامل"(٣/ ١٠٧٢) من طُرُقٍ عن زكريَّا بن يحيى الوَقَارِ، قال: قُرئ على عبد الله بن وهبٍ وأنا أسمعُ، قال الثَّوْريُّ، قال مُجالِدٌ، عن أبي الوَدَّاكِ، قال: قال أبو سعيدٍ الخُدريُّ: قال عُمَرُ بن الخطَّاب، قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال أخي مُوسى - عليه السلام -: "يا ربِّ! أَرِنِي الذي كُنتَ أريتني في السَّفينة"، فأوحَى اللهُ إليه: "يا موسى! إنَّك ستراه"، فلم يَلبَث إلَّا يَسيرًا، حتَّى أتاه الخَضِرُ، وهو طيِّبُ الرِّيح، حَسَنُ بياض الثِّياب، فقال: "السَّلامُ يا مُوسَى بنَ عِمرانَ! إنَّ ربَّك يَقرأُ عليك السَّلامَ ورحمةَ الله"، قال مُوسَى: "هو السَّلامُ، ومنه السَّلامُ، وإليه السَّلامُ، والحمدُ لله ربِّ العالمين، الذي لا أُحصِي نعمَهُ، ولا أَقدِرُ على شُكرِه إلَّا بِمَعُونَتِه"، ثُمَّ قال مُوسَى: "أُرِيدُ أن تُوصِينِي بوصيَّةٍ، يَنفَعُني اللهُ بها بعدَك"، فقال الخَضِرُ: "يا طَالِب العِلم! إنَّ القائل أقلُّ ملالةً من المُستَمِع، فلا تُملَّ جُلساءَك إذا ص:384.
حدَّثتَهم. واعلم! أنَّ قلبك وِعاءٌ، فانظُر ماذا تَحشُو به وعاءَك. واعزِف عن الدُّنيا، وانبِذها وراءَك، فإنَّها ليست لك بدارٍ، ولا لك فيها مَحَلُّ قرارٍ، وإنَّها جُعِلت بُلْغةً للعبَّاد، وليَتَزَوَّدُوا منها للمعاد. ويا مُوسَى! وطِّن نفسك على الصَّبر، تُلَقَّى الحِكَمَ. وأَشعِر قلبكَ التَّقوَى، تَنَلِ العِلمَ. وَرُضْ نَفسَك على الصَّبر، تَخلَصُ من الإثم. يا مُوسَى! تَفَرَّغ للعلم إن كُنتَ تُريدُه، فإنَّما العِلمُ لمن يَفرُغ له، ولا تكونَنَّ مِكثارًا بالمَنطِق مهدارًا، إنَّ كثرة المَنطِق تُشينُ العُلماء، وتُبدِي مساوئَ السُّخَفاء، ولكن عَلَيك بذِي اقتصادٍ، فإنَّ ذلك من التَّوفيق والسَّداد. وأَعرِض عن الجُهَّال، واحلُم عن السُّفهاء، فإنَّ ذلك فضلُ الحُكماء، وزَيْن العُلماء، إذا شَتَمَك الجاهلُ فاسكُت عنه سِلمًا، وجانِبه حَزْمًا، فإنَّ ما بَقِي من جهلِهِ عليك، وشتمِهِ إيَّاكَ، أكثَرُ وأعظمُ. يا ابنَ عِمرانَ! أَلَا ترَى أنَّك أُوتِيتَ من العِلم قليلًا، فإنَّ الاندِلَاثَ والتَّعَسُّفَ من الاقتحام والتَّكَلُّف. يا ابنَ عِمرانَ! لا تفتحنَّ بابًا لا تَدرِي ما غَلْقُه، ولا تُغلِقنَّ بابًا لا تدري ما فَتحُه. يا ابنَ عِمرانَ! من لا تَنتَهِي من الدُّنيا نهمَتُهُ، ولا تَنقَضِي منها رغبَتُهُ، كليف يكُون عابدًا؟ مَن يَحقِر حالَهُ، ويتَّهمُ اللهَ بما قَضَى له، كيف يكُون زاهدًا؟ هل يَكُفُّ عن الشَّهوات من قد غَلبَ عليه هواهُ؟ وينفَعُه طلبُ العِلم، والجهلُ قد حواه؟ لأنَّ سَفَرَه إلى آخرَته، وهو مُقبلٌ على دنياه. يا مُوسَى! تَعَلَّم ما تَعَلَّمَنَّ لتَعمَل به، ولا تَعَلَّمَهُ ليُتَحدَّث به، فيكونُ عليك بَوْرُهُ، ويكون لغيرك نُورُهُ. يا مُوسَى بنَ ،ص:384.
عِمرانَ! اجعل الزُّهدَ والتَّقوى لباسَك، والعِلمَ والذِّكرَ كلامَك، واستَكثِر من الحَسَنَاتِ، فإنَّك مُصِيبُ السِّيِّئات، وزَعزِع بالخوف قَلبَك، فإنَّ ذلك يُرضِي ربَّك، واعمَل خيرًا، فإنَّك لا بُدَّ عاملٌ سِواه. قد وُعظتَ إن حَفِظتَ"، فتولَّى الخَضِرُ، وبقي مُوسَى حزينًا مكرُوبًا".
• قلتُ: وزكريَّا بنُ يحيى الوَقَارُ، قال ابنُ عَدِيٍّ:"يَضَعُ الحديث، وأخبَرَني بعضُ أصحابنا، عن صالحٍ جزرةَ، أنَّه قال: "كان من الكذَّابين الكِبار"، - ثُمَّ قال في آخر التَّرجمة: - سمعتُ مشايخَ مِصرَ يُثنُون عليه في باب العِبادة والاجتهاد والفَضل، وله حديثٌ كثيرٌ، وبعضُها ما ذكرتُ وغيرُ ما ذكرتُ، موضوعاتٌ، كان يُتَّهَم الوَقَارُ بوضعِها، لأنَّهُ يَروِي عن قومٍ ثقاتٍ أحاديثَ موضُوعاتٍ. والصَّالِحُون قد وُسِمُوا بهذا الرَّسم، أن يَروُوا في فضائل الأعمال أحاديثَ موضوعةً بواطيلَ، وبينهم جماعةٌ مِنهُم تَضَعُها" انتهى.
ثُمَّ أخرَجَهُ ابنُ عَدِيٍّ، قال: أخبَرَنا مُحمَّدُ بنُ نصرٍ الخوَّاصُ، أنا الحارثُ بنُ مِسكِينَ، وأبو الطَّاهر، قالا: ثنا ابنُ وهبٍ بهذا.
فتخلَّص الوَقَارُ من تَبِعةِ الحديث.
ولكنَّ الخوَّاصَ ما عَرَفتُ مِن حاله شيئًا.
وآفة هذا الإسناد مُجالِدُ بنُ سعيدٍ، فقد كان أحمدُ بنُ حنبل لا يراه شيئًا، ووهَّاهُ يحيى بنُ مَعِينٍ، وقال:"كان يحيى بنُ سعيدٍ يقول: لو أردتُ أن يَرفَع لي مجالدٌ حديثَه كُلَّهُ لرفعه. قيل له: لم؟ قال: لضَعفِه".ص:385.
وكان عبدُ الرَّحمن بنُ مَهدِيٍّ لا يَروِي عنه.
وكلام النُّقَّاد يَدُور حول رداءة حِفظِه، وقلبِه للأسانيد، فكأنَّ هذا الحديثَ مِن الإسرائِيليَّات، التي رفعها مُجالِدٌ وهو لا يَدرِي.