هذا بحث مهم جدير بالعناية به والتأمل فيه واتباع أحسنه.
للعلماء في العدد المشترط في صحة الجمعة أقوال بلغت خمسة عشر كما في "فتح الباري". وقد تراءى لبعضهم تأييد قول أهل الظاهر منها في أنها تصح من اثنين قال: لأن بانضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما فقال: "الاثنان فما فوقهما جماعة"١. ثم قال: وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها. ا. هـ.
وقد راق هذا الكلام طائفة فانتحلوه، وظنوه الحق الذي لا مرية فيه فاعتقدوه.
وأقول: إن للظاهرية في كثير من المسائل جمودًا جليًّا، وتهوسًا جدليًّا، وكثيرا ما يسفسطون ويشاغبون بقولهم لم يرد كذا ولم يأت أنه لا يصح إلا كذا وهل من دليل على أنه لا يكون إلا كذا. يعنون أنه يلزم في التشريع أن يكون كله مما تفوه به الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسلوب الذي ألفوه، وهذا لعمر الحق غفلة كبرى عن مقاصد الشريعة في كثير من أبوابها، وما هو إلا كالوقوف مع القشر دون اللباب أو اللفظ دون المعنى والجسم دون الروح.
السنة المأمور بها في العبادات هي قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره اتفقت على ذلك كلمة الأصوليين.
هذه الجمعة أصل مشروعيتها مضاهاة أهل الكتابين بالتجميع في الأسبوع بيوم فيه، لما فيه من الفوائد العظمى.
روى الحافظان عبد بن حميد وعبد الرزاق عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة. قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل أسبوع، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يومًا نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره. فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموا يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه. قال الحافظ ابن حجر: حديث مرسل رجاله ثقات3.
وأخرج مسلم والنسائي عن حذيفة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة".
وأخرج الحافظ ابن عساكر عن عثمان بن عطاء قال: لما افتتح عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجدًا ويتخذ للقبائل مسجدًا فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة٢.وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك. وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك. وكتب إلى أمراء الأجناد أن لا يبدوا إلى القرى وأن ينزلوا المدائن وأن يتخذوا في كل مدينة مسجدًا واحدًا. وروى ابن أبي شيبة قال:كان عبد الله بن رواحة يأتي الجمعة ماشيا وإن شاء راكبًا وذلك من ميلين. وأخرج أيضًا أن أبا هريرة كان يأتي الجمعة من"ذي الحليفة".
= البلد في جامع واحد يوم الجمعة وبنوا على ذلك حكمة التعارف الذي به قوام العمران. وهاك ما قاله الحكيم الشهير ابن مسكويه في كتابه "تهذيب الأخلاق" في المقالة الخامسة في بحث المحبة: والسبب في هذه المحبة الأنس وذلك أن الإنسان آنس بالطبع وليس بوحشي ولا نفور ومنه اشتق اسم الإنسان. وليس كما قال الشاعر "سميت إنسانًا لكونك ناسي" ظنًّا منه أنه مشتق من النسيان فهو غلط منه. وينبغي أن يعلم أن هذا الأنس الطبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكسبه مع أبناء جنسنا حتى لا يفوتنا بجهدنا واستطاعتنا فإنه مبدأ المحبات كلها. وإنما وضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة اتخاذ الدعوات والاجتماع في المآدب ليحصل لهم هذا الأنس. ولعل الشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في مساجدهم كل يوم خمس مرات وفضلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد ليحصل لهم هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة حتى يخرج إلى الفعل ثم تتأكد بالاعتقادات الصحيحة التي تجمعهم. وهذا الاجتماع في كل يوم ليس يتعذر على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يومًا بعينه في مسجد يسعهم أيضًا شمل أهل المحال والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل الدور والمنازل في كل يوم، ثم أوجب أيضًا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليسعهم المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم، ثم أوجب بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم يعين من العمر على وقت مخصوص ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل أسبوع وفي كل يوم فيجتمع بذلك الأنس الطبيعي إلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة وليكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم الذي ألفهم على تقوى الله وطاعته. انتهى بحروفه.
١ قلت والمرسل من أقسام الحديث الضعيف في علم المصطلح فتنبه.
٢ قلت: فهم حكماء الإسلام من مثل هذا الأثر ومما يأتي وجوب اجتماع أهل=
3.حديث ضعيف من جميع طرقه، وبعضها أشد ضعفًا من بعض كما بينته في "إرواء الغليل" "٤٨٢".