يجتمع في آخر أربعاء من شهر صفر بين العشائين في بعض المساجد كثير من العامة ويتحلقون إلى كاتب يرقم لهم على أوراق آيات السلام السبعة على الأنبياء كآية: سلام على نوح في العالمين. إلخ ثم يضعونها في الأواني ويشربون من مائها ويعتقدون أن سر كتابتها في هذا الوقت ثم يتهادونها إلى البيوت. ولا أدرى من أين سرت لهم هذه العادة التي لا سلف لهم بها إلا مشيخة التمائم. وبديهي أن اعتماد ذلك واعتقاده يجر إلى التشاؤم والتطير بتلك الليلة والمسلمون براء من الطيرة كما قال ابن حجر. ونظير هذا تشاؤم العامة في دمشق من عيادة المريض يوم الأربعاء وتطيرهم منه فلا يمكن للعامة ولا للخاصة عيادة المريض يوم الأربعاء ولا لذوي قرباه. والظاهر أن مستندهم حديث "يوم الأربعاء يوم نحس مستمر"١ قال الصاغاني موضوع، وكذا قال ابن الجوزي.
قال السخاوي: وفي فضيلة الأربعاء والتنفير منه أحاديث كلها واهية ومن خرافاتهم قولهم: من عاد مريضًا يوم الأربعاء زاره يوم الخميس. يعنون زيارته في المقبرة. اللهم أنا نعوذ بك أن نكون من الجاهلين.
وقد روى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الطيرة شرك"١ وروى الطبراني عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من تَطير ولا من تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو سَحر أو سُحر له"٢ وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك"قالوا: يا رسول الله وما كفارة ذلك قال:"يقول: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك"٣ وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صفر"٤ ورواه الشيخان مختصرًا. وروى ابن جرير عن ابي هريرة مرفوعًا"لا عدوى ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ومصيباتها ورزقها"٥.
وفي فتاوي الأمام تقي الدين ابن تميمية: مسألة في الأيام والليالي مثل أن يقال السفر يكره يوم الأربعاء أو الخميس أو السبت أو يكره التفصيل أو الخياطة أو الغزل في هذه الأيام أو يكره الجماع في ليلة من الليالي ويخاف على الولد.
الجواب: بعد الحمدلة هذا كله باطل لا أصل له بل الرجل إذا استخار الله وفعل شيئًا مباحًا فليفعله في أي وقت تيسر ولا يكره التفصيل ولا الخياطة ولا الغزال ولا نحو ذلك من الأفعال في يوم من الأيام ولا يكره الجماع في ليلة من الليالي ولا يوم من الأيام والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التطير كما ثبت في الصحيح٦
١ حديث صحيح، وهو مخرج في "تخريج الحلال والحرام" "٣٠١" و"الصحيحة" "٤٢٩". ٢ حديث حسن، مخرج في الحلال" "٥٨٧". ٣ حديث صحيح، مخرج في "الصحيحة" "١٠٦٥". ٤ أخرجه أبو داود في "الطب" وأحمد أيضًا في "المسند" "٢: ٣٩٧" عن العلاء عن أبيه عنه. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وهو في "الصحيحين" دون قوله: "ولا نوء" وهو مخرج في "الصحيحة" "٧٨٣". ٥ قلت: أخرجه أحمد أيضًا وغيره بسند صحيح كما حققته في المصدر السابق "١١٥٢". ٦ يعني "صحيح مسلم"، والحديث مخرج في "الإرواء" "٣٨٩". عن معاوية بن الحكم السلمي قال:قلت يا رسول الله إن منا قومًا يأتون الكهان قال:"فلا تأتوهم"قلت: منا قوم يتطيرون قال:"وذاك شيء يجده أحدكم من نفسه فلا يصدنكم"فإذا كان قد نهي عن أن تصده الطير عما عزم عليه فكيف بالأيام والليالي ولكن يستحب السفر يوم الخميس ويوم السبت ويوم الاثنين من غير نهي عن سائر الأيام إلا يوم الجمعة إذا كانت الجمعة تفوته بالسفر ففيه نزاع بين العلماء١. وأما الصناعات والجماع فلا يكره في شيء من الأيام والله أعلم.
ورأيت لابن حجر الهيتمي عليه الرحمة في فتاويه جملة لطيفة قال: رسخ في أذهان العامة أن أيامًا مشئومة على المريض إذا عيد فيها فينبغي لمن علم منه اعتقاد ذلك أن لا يعاد في تلك الأيام لأن ذلك يؤذي المريض ويزيد في مرضه لما ركز في عقولهم السخيفة من التشاؤم والطيرة فيحصل بذلك ضرر كبير وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" ٢ وقد تترك السنة لعوارض قوية.
فإن قلت ينبغي للعالم أن يفعل ذلك إظهارًا للسنة وإعلانًا للناس بها ليتركوا ما في أذهانهم. قلت: هذا أوضح أن لم يغلب عليهم الجهل والتشاؤم ويرسخ ذلك في أذهانهم حتى يعادوا بسببه العالم ويستسخروا به ويحصل له منهم أذى شديد. أما إذا ترتب عليه ذلك فتركه أولى لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ا. هـ.
وقد بلغني عن بعض مشايخ أشياخنا أنه أمر يوم الأربعاء أهله أن يفتحوا باب داره لعيادته وأن تدعى المارة لذلك رغبة منه رحمه الله في إماته هذه البدعة.
١ قلت: والراجح الجواز لمن كان لا يقصد التفويت، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر"، ولم يصح في النهي عنه شيء انظر "الضعيفة" "٢١٨ و٢١٩". "ناصر الدين". ٢ حديث صحيح بمجموع طرقه كما حققته في "الإرواء" "٨٨٨".
إصلاح المساجد من البدع والعوائد ،ص:117ـ118.
١ قلت، ومثله: "آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر" وهو مخرج في "الضعيفة" "١٥٨١" وهو ثالث حديث في كتابنا "ضعيف الجامع الصغير وزيادته"، يسر الله إتمام طبعه بمنه وكرمه مع الكتاب الآخر "صحيح الجامع الصغير وزيادته".